هل أضاع هؤلاء ربهم ؟
الحمد لله العالي على خلقه المستوي على عرشه ، وسع كل شيء رحمةً وعلماً والصلاة والسلام على نبيه الكريم المشير إلى ربه في البلد الأمين إلى علو الله العليِّ العظيم ، فأَشهده على البلاغ والتعليم كما أمره ربه ﷻ في محكم التنزيل أما بعد : فقد بعث لي أحد الفضلاء فتوى تُنسب لأحد دور الإفتاء في إحدى الدول العربية وفيها السؤال عن مكان الله ﷻ، وخلاصة فتوى هذه الدار أنه ليس لله ﷻ مكان ولا يوصف الله ﷻ بالعلو ، ولا يجوز السؤال عن مكان الله ﷻ ، وأن السؤال عن الله ﷻ وعن صفاته وأفعاله من مباحث علم الكلام زعموا ! ، فاستنكر بفطرته الجواب ، لتعارضه مع عقول أولي النهى والألباب وطلب مني بيان صحة هذا الكلام ورفع الإشكال وسد الباب .
فأقول مستعينا بالله :
قد دل الكتاب الحكيم والسنة المطهرة والعقل الصريح والفطرة السليمة وإجماع العقلاء على أن الله ﷻ عالٍ على خلقه فوق سمواته بائن من خلقه ، وأخبر ﷻ أنه فوق سمواته وفوق كل مكان فقال ﷻ ﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ﴾ قال الطبري "وهو الله"(1) وقال ﷻ ﴿ يَا عِيسَى إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ﴾ أخرج الطبري بسنده عن الحسن البصري أنه قال : "رفعه الله إليه فهو عنده في السماء"(2) وقال ﷻ ﴿بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ﴾ وتأمل قوله (إليّ) وقوله (إليه) فمن كان عربياً يعلم أنها إشارة للمكان والعلو ، وقال ﷻ ﴿ إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ وقال ﷻ ﴿ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ﴾ وفوق ظرف مكان بإجماع أهل اللسان ، بل حتى فرعون اللعين إمام الملحدين كذّب بأن رب موسى فوق العالمين فقال : ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ﴾ ففرعون يريد من وزيره هامان أن يبني له قصراً عالياً منيفاً شاهقاً لكي يصل إلى السماء فينظر ويشاهد هل فوق السموات إله يستحق أن يُعبد وأن يُصلى له ويُسجد ؟ فأجاب نفسه ﴿وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا﴾ وهو على يقين أن موسى – حاشاه – ﷺ كاذباً في دعواه ، لأن اعتقاد فرعون أنه ليس فوق السماء إله وأن موسى ﷺكاذب في دعواه ، فانظر كيف توافقت عقيدة دار الإفتاء مع عقيدة فرعون ! فهل ستقول دار الإفتاء كما قال فرعون أن موسى ﷺكان كاذباً في دعواه وأن فرعون كان صادقاً فيما زعمه وادعاه ؟ نعوذ بالله من الضلال والخذلان .
أما في سنة النبي ﷺ فهي كثيرة جداً فمنها قوله ﷺ:"ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء ، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً"(3) وقوله ﷺ للجارية التي أراد الصحابي أن يعتقها فقال لها : " أين الله ؟ قالت : في السماء ، قال : من أنا ؟ قالت : أنت رسول الله ، قال : "أعتقها فإنها مؤمنة" (4) فتأمل يا رعاك الله كيف وصف النبي ﷺ هذه الجارية بالإيمان وكيف عرفت أين ربها بينما أضاعت دارُ الإفتاء مكانه ! . وقال ﷺ: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"(5) فكل هذه الأحاديث دالة على علو الله ﷻ على خلقه وأنه في فوق سمواته وفوق سائر خلقه .
وها هم صحابة أحمد ﷺ خير أمة أخرجت للناس كانوا أبرّ هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً وأقومها هدياً وأحسنها حالاً ، يعتقدون أن ربهم الذي أرسل إليهم رسولهم ﷺ في السماء فوق عرشه بائن من خلقه ، فها هو صديق هذه الأمة وشيخ أصحاب النبي ﷺ وسيدهم يبيّن للناس بعد وفاة النبي ﷺ بدقائق يسيرة أن ربهم الذي يعبدونه في السماء عال على خلقه ﷻ ، قال (رضي الله عنه) عندما قُبض ﷺ: "من كان يعبد محمد فإن محمد ﷺ قد مات ومن كان يعبد الله فان الله في السماء حي لا يموت"(6) وها هي أم المؤمنين زينب بنت جحش (رضي الله عنها) تذكر مزية لها ليست لغيرها فعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال : "كانت زينب (رضي الله عنها) تفخر على أزواج النبي ﷺ تقول : زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات"(7) وفي رواية عند البخاري : "إن الله أنكحني في السماء "(8) وصح عن ابن مسعود (رضي الله عنه) أنه قال : "العرش فوق الماء والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم"(9) وابن عباس (رضي الله عنه) يذكر أحد مناقب عائشة y فقال لها : "كنت أحب نساء رسول الله ﷺ إلى رسول الله ﷺ ولم يكن رسول الله ﷺ يحب إلا طيبًا وأنزل الله براءتك من فوق سبع سماوات (10) ، وغير ذلك من الآثار الثابتة عن الصحابة الكرام في إثبات علو الله وفوقيته مما يطول المقام بذكرها .
واتفق الأئمة الأربعة على أن الإله الذي يعبده المسلمون في السماء فوق خلقه مستوٍ على عرشه قال الإمام أبو حنيفة من قال : لا أعرف الله أفي السماء أم في الأرض فقد كفر قال الله ﷻ ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ فإن قال : أقول بهذه الآية ولكن لا أدري أين العرش ؟ في السماء أم في الأرض ؟ فقد كفر أيضاً ، ونذكره ﷻ من أعلى لا من أسفل لأن الأسفل ليس من الربوبية والألوهية في شيء (11) وقال إمام دار الهجرة المتبع لسنة صاحب الحجرة ﷺ مالك بن أنس :" الله في السماء وعلمه في كل مكان لا يخلو منه شيء "(12) وعن أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي قال : القول في السنة التي أنا عليها ورأيت أصحابنا عليها أصحاب الحديث الذين رأيتهم فأخذت عنهم مثل سفيان ومالك وغيرهما : الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإن الله على عرشه في سمائه(13) وقال الإمام المبجل أحمد بن حنبل : وقد أخبرنا ﷻ أنه في السماء فقال : ﴿ أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ ﴾ وقال ﴿ أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ﴾ (14)
بل اتفقت الأمة جميعاً أمة الدعوة وأمة الإجابة على أن الله ﷻ عالٍ على خلقه في سماءه ، قال الإمام الدارمي : "وقد اتفقت الكلمة من المسلمين والكافرين أن الله في السماء وحدّوه بذلك إلا المريسي الضال وأصحابه حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحنث قد عرفوه بذلك"(15) وقال الإمام الأوزاعي : "كنا والتابعون متوافرون نقول : أن الله ﷻ فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته"(16) وقال ابن قدامة : فإن الله ﷻ وصف نفسه بالعلو في السماء ووصفه بذلك محمد خاتم الأنبياء وأجمع على ذلك جميع العلماء من الصحابة الأتقياء والأئمة من الفقهاء وتواترت الأخبار بذلك على وجه حصل به اليقين وجمع الله ﷻ عليه قلوب المسلمين وجعله مغروزا في طباع الخلق أجمعين(17)وقال الخطابي في كتابه (شعار الدين)(18): أن الله ﷻ في السماء مستو على العرش وقد جرت عادة المسلمين خاصهم وعامهم بأن يدعوا ربهم عند الابتهال والرغبة إليه ويرفعوا أيديهم إلى السماء وذلكم لاستفاضة العلم عندهم بأن المدعو في السماء ﷻ .
وكذلك بعض من ينتمي إلى الفلسفة ويحاول التلفيق بينها وبين شرعة النبي ﷺ يقرون بأن الله ﷻ في السماء عال على خلقه وينقل في ذلك اتفاق الحكماء ، قال ابن رشد الحفيد:" القول في الجهة ، وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله ﷻ حتى نفتها المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية... وظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات الجهة... لأن الشرائع كلها مبنية على أنَّ الله في السماء، وأن منها تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين وأنَّ من السماء نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي ﷺ حتى قرب من سدرة المنتهى ... وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء ، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك، والشبهة التي قادت نفاة الجهمية إلى نفيها؛ هي أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية ونحن نقول إن هذا كله غير لازم فإن الجهة غير المكان"اهـ (19)
بل حتى في الجاهلية الظلماء كانوا يعلمون أن الله ﷻ في السماء وهذا معلوم متواتر في أشعارهم فهذا عنترة بن شداد العبسي يقول :
يا عبل أين من المنية مهربي ... إن كان ربي في السماء قضاها(20)
وما اتفق العقلاء على ذلك إلا لما فطرهم ربهم على الإقرار بعلوه ﷻ وأنه فوقهم ﷻ ، وإليك أخي الحبيب هذه القصة التي تبين لك أن من زعم أن ربه ليس فوق خلقه سيقع حتما بالحيرة والاضطراب لأنه خالف المنقول والمعقول وفطرة المنان ، فقد سئل أبو المعالي الجويني عن قوله ﷻ ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ﴾ فقال : "كان الله ولا عرش - وجعل يتخبط في الكلام- فقال له الهمداني : قد علمنا ما أشرت إليه ، فهل عندك للضرورات من حيلة ؟ ما قال عارف قط يا رباه إلا قبل أن يتحرك لسانه ، قام من باطنه قصدٌ لا يلتفت يمنة ولا يسرة يقصد الفوق ، فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة ؟ فنبئنا نتخلص من الفوق والتحت ! ، فقام الأستاذ – يعني الجويني - بكمه على السرير وصاح يا للحيرة وخرق ما كان عليه وانخلع وصارت قيامة في المسجد ونزل ولم يجبني إلا : يا حبيبي الحيرة الحيرة ، والدهشة الدهشة" فسمعت بعد ذلك أصحابه يقولون : سمعناه يقول : حيرني الهمداني ! (21)
وكما أن الكتاب والسنة وأجماع الأمة أطبقوا على علو الله ﷻ فكذلك العقل الصريح الذي لم يتلوث بترهات الفلاسفة وهذيان القرامطة دل على علو الله ﷻ على خلقه ومباينته لهم ، فهنا يتعين أن نسأل دار الإفتاء تلك ، هل الله الذي يعبده المسلمون خارج الأذهان أم لا وجود له إلا في الأذهان ؟ فإن قالوا لا وجود له إلا في أذهان البشر فقد لحقوا بركب فرعون ونمرود وجنكيز خان وساروا على نهج الملاحدة من الماركسية والشيوعية وأضرابهم ، وإن قالوا هو موجود وجوداً حقيقاً بل هو من أوجد الموجودات ، قلنا صدقتم ولكن الله ﷻ الذي أوجد الموجودات هل أوجدها في داخل نفسه ؟ أم أوجدها أولاً ثم حلّ فيها ثانياً ، أم أوجدها ﷻ وهو بائن عنها ؟ فإن قالوا بالأول فقد ضلوا ضلالاً بعيداً لأن العقلاء متفقون على أن الله ليس محلاً للحوادث ! وإن قالوا بالثاني وقعوا فيما وقع فيه النصارى بل أشد ، فلا سبيل لهم إلا الجواب الثالث ، فإن قالوا به ، قلنا لهم هل الله ﷻ عندما خلق الخلق جعلهم تحته أم فوقه أم جعلهم مساوين له ؟ فهل ستقول دار الإفتاء أنها فوق الله والرب ﷻ تحتها ؟ أم أنها مساوية لله ﷻ ؟ أم أن الله فوقها ؟ أم سترجع الدار القهقرى وتقول بأن الله موجود في الأذهان فقط ﴿ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ﴾ ؟
ومما يُلاحظ على هذه الفتوى مع قصرها وعظيم تخبطها ما يلي :
1. قولهم : وأما السؤال عن الله ﷻ بأين كمسألة تفصيلية من مسائل علم الكلام وأصول الدين !
فيقال : منذ متى كان علم الكلام دليلاً على علو الله ﷻ ؟
بل كيف يصبح هذا العلم الدخيل الغامض دليلاً على من هو دليل على كل شيء ؟
بل كيف يصبح علم الكلام دليلاً على علو رب الأنام وقد ذمه الأئمة الأعلام ، فقد سُئل الإمام أبو حنيفة : ما تقول فيما أحدث الناس من الكلام والأعراض والأجسام فقال : "مقالات الفلاسفة عليك بالآية وطريقة السلف وإياك وكل محدثة فإنها بدعة "(22).
وقد دخل رجلٌ على الإمام مالك فسأله عن القرآن فقال الإمام مالك : لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد ؟ لعن الله عمراً فإنه ابتدع هذه البدع من الكلام ولوكان الكلام علما لتكلم فيه الصحابة والتابعون كما تكلموا في الأحكام والشرائع ولكنه باطل يدل على باطل"(23)
وقال الإمام الشافعي : "حكمي في أهل الكلام حكم عمر في صبيغ"(24) بل أغلظ رحمه الله على أهل الكلام في العقوبة حيث قال : "حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال هذا جزاء من أعرض عن الكتاب والسنة وأقبل على الكلام"(25)
وأما إمام أهل السنة وقامع البدعة والثابت في المحنة فقد تواترت عنه الأخبار في ذم علم الكلام مما يضيق حصره هنا ، ومنها قوله : "لا يفلح صاحب كلام أبداً ولا تكاد ترى أحداً نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل"(26) وقال : "علماء الكلام زنادقة"(27)
فيكف يكون علم كهذا ذمه السلف وعابه الأئمة يكون دليلاً على رب العالمين وعلى صفاته وأفعاله ، بل ما دخل علم الكلام في شيء إلا أفسده وأتلفه ، قال الإمام البربهاري : اعلم رحمك الله أنها ما كانت زندقة قط ولا كفر ولا شك ولا بدعة ولا ضلالة ولا حيرة في الدين إلا من الكلام وأصحاب الكلام"(28)
2. قولهم : أننا حتى نصف شيئًا بجهة معينة يقتضي أن تكون هذه الجهة بالنسبة إلى شيء آخر فإذا قلنا مثلا: السماء في جهة الفوق فستكون جهة الفوقية بالنسبة للبشر وهي في جهة السفل بالنسبة للسماء التي تعلوها، وهكذا، وطالما أن الجهة نسبية وحادثة فهي لا تليق بالله ﷻ . وقولهم : وإثبات الجهة والمكان يقتضي هذا التغير .
فيقال : تأمل وفقك الله لهداه وأبعد عنك طريقة أهل الزيغ النفاة ، كيف وقع هؤلاء بالتمثيل أولاً ثم عطلوا ثانياً ، فعندما وقفوا على الآيات الدالة على وصف الله بالفوقية والعلو تبادر لأذهانهم أن الله ﷻ يوصف بالعلو تماماً كوصف المخلوق فأخذوا بكل ما يلزم المخلوق فجعلوه للخالق ! فلما تنبهوا لذلك واستيقظوا هرعوا إلى تعطيل الله ﷻ من صفة العلو بالكلية لكي يطهروا – بزعمهم – هذا التشبيه المزعوم في أذهانهم فانطبق عليهم المثل المشهور " كالمستجير من الرمضاء بالنار"
3. قولهم : فلا يسأل عن الله بأين بقصد معرفة جهة ذاته سبحانه ومكانها وإنما يجوز أن يسأل عنه بأين بقصد معرفة ملكوته سبحانه أو ملائكته .
فيقال : ﴿فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ ففي نفس الفتوى استدلت الدار بحديثٍ في صحيح مسلم وهو قوله ﷺ"اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء"(29)
وفي نفس صحيح مسلم أن النبي ﷺ سأل الجارية فقال لها : « أين الله ؟ » قالت في السماء قال : من أنا ؟ قالت أنت رسول الله قال ﷺ أعتقها، فإنها مؤمنة (30) فكيف يستدل هؤلاء بحديث وينكرون الآخر بل يخالفونه صراحة بعدم تجويز السؤال عن مكان ذات الله ؟ أهي السنن كما قال I ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ فالنبي الكريم ﷺ يسأل الجارية سؤال واضحاً بلسان عربي مبين فيقول لها أين الله ؟ ودار الإفتاء لسان حالها يقول : لا يجوز لك يا رسول الله أن تسأل عن الله بأين ! .
وليس هذا الأثر يتيماً في بابه وحيداً في إيراده بل ثبت ذلك عن ابن عمر (رضي الله عنه) فقد مر (رضي الله عنه) براع فقال : هل من جزرة(31) ؟ فقال : ليس ها هنا ربها قال ابن عمر (رضي الله عنه) : تقول له : أكلها الذئب ، قال : فرفع رأسه إلى السماء وقال : فأين الله ؟ فقال ابن عمر : أنا والله أحق أن أقول : أين الله ؟ واشترى الراعي والغنم فأعتقه وأعطاه الغنم .(32)
وثبت أيضاً السؤال عن الله بأين عن إمام من أئمة التابعين فقد قال سليمان التيمي : لو سُئلت أين الله لقلتُ في السماء (33) ، بل ولا ينقضي عجبي من أن الدار تنتسب لأبي الحسن الأشعري وتنتصر لمذهبه وهو يخالفها جملة وتفصيلاً ويجوّز السؤال عن الله "بأين" ، فقال رحمه الله : قال النبي ﷺ للجارية : أين الله ؟ قالت : في السماء ، قال فمن أنا ؟ قالت : أنت رسول الله ، فقال النبي ﷺ: أعتقها فإنها مؤمنة ، قال : وهذا يدل على أن الله تعالى على عرشه فوق السماء فوقية لا تزيده قربا من العرش(34)
قولهم : والله تعالى أعلى وأعلم
قلتُ : هنا نقضت دار الإفتاء غزلها من بعد ضعفٍ ، فأثبتت في آخر الفتوى صفة العلو لله ﷻ ، أما في أولها فقد أجلبوا على هذه الصفة الشريفة بخيلهم ورجلهم لنفيها ، ولا يقال عن هذا سبق قلم بل يقال سبق فطرة فتأمل .
وبعد أن تبين لك حفظك الله بدليل الكتاب والسنة وإجماع السلف واتفاق العقلاء وما دلت عليه فطرة البشر أن الله ﷻ عال على خلقه فوق سمواته ، لا ينبغي لك أن تلتفت لوساوس شياطين الإنس والجن ، فهؤلاء أضاعوا ربهم فلم يجدوه ويريدون منك أن تستن بسنتهم فالحذر الحذر وإياك والإذعان لأهل الضلال والله المستعان .
كتبه
بندر بن سليمان الخيبري
الخميس 5/1/1438هـ
المدنية المنورة
لتحميل الملف على شكل (PDF) :
قناة الشيخ بندر الخيبري على التلجرام:
telegram/bander7465
__________________________
(1)جامع البيان (23/ 513)
(2) نفس المصدر (6/ 457) برقم (7140)
(3)رواه البخاري (4351) ومسلم (1064)
(4)صحيح مسلم (1/ 381) برقم (537)
(5)رواه الترمذي (1924) وقال حسن صحيح .
(6) أخرجه الدارمي في النقض على المريسي (105) والمقدسي في العلو (70) والذهبي في العلو (62) وقال إسناده صحيح
(7)صحيح البخاري (9/ 124) رقم (7420)
(8) نفس المصدر رقم (7421)
(9)رواه البخاري في خلق أفعال العباد (43) وابن خزيمة في صحيحه (70) والبيهقي في الأسماء والصفات (401) والذهبي في العلو وقال الألباني مختصر العلو (103) إسناده صحيح .
(10) أخرجه الدارمي في «الرد على الجهمية» (84) بسند حسن. وأحمد في المسند (2496، 3262)، وأبو يعلى (2648) والطبراني في الكبير (10783) وأصله في البخاري برقم (4753)
(11) الفقه الأبسط 15 #
(12)أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (1/280) ، والآجري في والشريعة 289 ، واللاكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 673"وابن عبد البر في"التمهيد"(7/138) وقال الإمام الألباني في مختصر العلو(110) سنده صحيح
(13) أخرجه الذهبي العلو( 123) وإيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل لابن جماعة/ 41
(14)الرد على الجهمية والزنادقة (146)
(15)النقض على المريسي ( 78)
(16) مختصر العلو للذهبي (137) والأسماء والصفات للبيهقي (2/ 304)( 865) وفتح الباري 13/417
(17)إثبات صفة العلو (63)
(18) نقلاً عن مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (373)
(19)الكشف عن مناهج الأدلة (145)
(20) ديوان عنترة (183)
(21)مختصر العلو (277- 276) وقال الإمام الألباني وإسناد هذه القصة صحيح مسلسل بالحفاظ .
(22)الحجة في بيان المحجة (1/ 116)
(23)ذم الكلام وأهله (5/ 72)
(24) ذم الكلام وأهله (4/ 246)
(25)جامع بيان العلم وفضله (2/ 193)
(26) نفس المصدر (2/195)
(27) تلبيس إبليس 83
(28)شرح السنة (87)
(29) صحيح مسلم (2713)
(30) تقدم تخريجه
(31) أي : شاة صالحة للذبح ، انظر لسان العرب (4/ 134)
(32) أخرجه الذهبي في العلو وقال الإمام الحبر الألباني في المختصر (127) وهذا إسناد جيد ، رجاله ثقات رجال الشيخين غير عبد الله بن الحارث الجمحي وهو الحاطبي صدوق كما في "التقريب"